سألت ذاتي في أحد الليالي المظلمة، المخيفة بِصَمتِها، بينما كانت همسات الهوى تتخل سكون الليل وحرارة الجوى تذيب الأراضي الباردة، وتزرعها فُلا وياسمينا ... فقلت لها :
هل لي من مكان أسكن إليه؟ بعدما شردتني أفكار العشق الهائمة وغدوت كالمتسكع في أحياءٍ مهجورة لا قادرٍ أن يسكن بيوتها ولا أن يهجرها، فقد بات يحبها ويحب التسكع فيها ....
نعم، غدوت كالسفينة المكسورة الأشرعة، من فقدت في عرض اليم ربانها فمن ذا يوصلها أو يوصل أشلاءها إلى بر الأمان؟ أو يقتلها وينهب ما تبقى من زادٍ في جعبتها ويرمي جثتها إلى القرش ليأكل ما ترك الحرمان من عظام هشة وجلد يكسوها ...
ما بالي أصارع نفسي وأهجر منها واليها، وأهرب من سجن الذكريات وكأنني لا أدرك أنه لا ملجأ لي سوى قضبانها؟
ما الذي يجبرني على تصديق ما يمليه الشجن وهو يتفنن في تمزيق أوصال فؤادي؟ ثم يحاول عبثا أن يفهمني أنه فن الهوى وقواعد وضعتها الطبيعة فينا لا مفر منها إلا إليها...
رأيته يحزم حقائبه فتُـقبل نظراته الحزينة ما بقي من نظراتي الحارة التي اضمحل نورها وغدت لا تبصر إلا ما يحلو لها ..كنت أفهم لغتها بل أحيانا كنت اُدَرِسُها، لان الفؤاد ضمها لسنوات، وفي زنزانة الهيام كم سجنها ، أحسست أنه سوف يعود بل كان يلتفت ويقول لي انه سوف يعود وان المسافة بين قلبينا منعدمة انعدام ذرات الكره فيهما، كنت أدرك هذه المعادلة بل أحفظها عن ظهر قلب، لأنني بدمي ودمه كتبتها وحفرتها في جدراني المهترئة التي تقاوم باستمرار... أخذني التفكير ونسيت أن اسأله ، من لي سواك يلملم أشلائي؟ يغمرني بدفء كلماته الثائرة الخامدة، القاسية الذائبة بين أناملي ...
هل عزمتَ الرحيل؟ لك ذلك سيدي لكن احترم آخر أمنياتي قبل أن تشنقني في صمت يمحو صدى أنفاسي وآهاتي، التي كم اغتالتك في الماضي بنبال مسمومة ... نعم هو آخر ما في نفسي من أماني، ومسك الختام لسلسلة من الآلام ... خذ معك روحي .. ادسسها في احدى حقائبك بين ملابسك كي تستنشق -بدلا مني- عطرك ... اريده يخنقها ... لا بل يقتلها ثم يحيها ويتبناها...
أتوسل اليك أن تأخذها... لا أريدها أن تظل بعدك، ثم أراها في احدى الغرف المظلمة كالعاجز أو الجريح يقلب عينيه إلي كلما مررت من أمامه ويسألني الرأفة بحاله، روحي التي رأيتها وقت رحيلك وقد اغرورقت عيناها بالدموع ترفض أن تذرف دمعة، لان الدمعة حارة وخدها غدا جليدا يأب الذوبان تحت الأيادي القاسية ....
لا تسألني إن كنت أقبل أم أرفض.. بل خد روحي ولا تلتفت إلى الوراء لا أريد أن أستنشق أنفاسك ... قد أختنق بعدها ... وقد لن أتنفس غيرها ولو على سبيل الوهم والخيال ...
سئمت كلمة العذاب وقررت أن أغلق الباب، بعدما ترحل صورتك وأنت تحمل الحقائب ...أتراني سوف أشتاق ؟ نعم سوف أشتاق ...